حجاب المرأة [ جزء 1 - صفحة 9 ]
الإماء وأن الأمة يظهر منها رأسها وشعرها ( ص 26 ) فإنه يعود ليناقش المسألة على ضوء بعض القواعد الإسلامية العامة التي منها " درء المفاسد قبل جلب المصالح " فلا يدع المسألة على إطلاقها المستلزم جواز بروز الأمة الحسناء أيضا بشعرها فيقول بعد توطئة مفيدة :
وكذلك الأمة إذا كان يخاف منها الفتنة كان عليها أن تحتجب
( ص 27 ) . ثم يؤكد ذلك فيقول :
فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد
أقول : وعلى هذا فمذهب ابن تيمية وسط بين الجمهور الذين لا يوجبون الخمار على الأمة مطلقا وبين ابن حزم غير الذين يوجبون ذلك عليها . مطلقا ومن الواضح أنه إنما ذهب ابن تيمية إلى ذلك توفيقا بين بعض الآثار التي تدل لمذهب الجمهور ( انظر ص 26 ، 33 ) وبين القاعدة المشار إليها آنفا . وهذا المذهب وإن كان أقرب إلى الصواب من مذهب الجمهور الذي كنا استدللنا على رده في كتاب " حجاب المرأة المسلمة " ( ص 42 - 46 ) . فلا يزال في النفس منه شيء لأن تقدير الجمال المترتب عليه خوف الفساد أمر نسبي وكم من أمة سوداء تكون جميلة الأعضاء والتكوين بحيث يفتتن بها البيض ثم إنها قد لا تكون كذلك عند هؤلاء ولكنها جميلة عند بين جنسها من السود . فالأمر غير منضبط . والله أعلم
[ 9 ]
حجاب المرأة [ جزء 1 - صفحة 10 ]
ومن ذلك أنه رجح مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية لأنه يخاف ثورانها وقال ( ص 34 ) :
ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة والأصل أن ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة ولهذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما
أقول : ولو أن العلماء قديما والكتاب حديثا راعوا هذا الأصل الذي ذكره : " ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز " وجعله دليلا مرجح لتحريم النظر المذكور لما تورطوا في إصدار بعض الفتاوى التي لا يشك المتفقه في أصول الشريعة وفروعها أنها تؤدي إلى مفاسد ظاهرة كقول بعض الحنفية :
يجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثدييها
( 1 ) . وقول البعض :
_________
( 1 ) انظر : " أحكام القرآن " لأبي بكر الجصاص الحنفي ( 3 / 390 ) وكتابي " حجاب المرأة " ( ص 44 ) فإن فيه ردا على القول المذكور ومع ذلك لم ننج من أن يتهمنا بعض الحنفية أنفسهم بأني أبيح النظر إلى وجه المرأة وأخشى ما أخشاه أي يكون ذلك على قول المثل : رمتني بدائها وانسلت
[ 10 ]
حجاب المرأة [ جزء 1 - صفحة 11 ]
" يجوز النظر إلى المرأة الأجنبية وعورتها من المرآة "
وعلل ذلك بعضهم بأنه إنما ينظر إلى خيال وتبنى ذلك اليوم - مع الأسف - أحد الأحزاب الإسلامية الذي يأخذ من كل مذهب ما يناسب المصلحة بزعمه ولم يقف عند هذا فحسب بل إنه جعله كالنص المعصوم فرتب عليه ما هو أشد إفسادا من الأول لأنه أمس بحياة شبابنا اليوم وواقعهم وهو جواز النظر إلى الصور الخلاعية في التلفزيون والسينما والمجلات معللا ذلك بما تقدم أنه إنما ينظر إلى خيال وكل ذي عقل ولب حتى ولو كان غير مسلم يعلم يقينا أن هذه الصور من أشد الأنواع المثيرة لشهوة الشباب وغرائزهم بحيث أنهم لا يجدون بعد ذلك سبيلا إلى إطفائها إلا بارتكاب المحرم نصا ولو كان تحريمه من باب سد الذريعة كالنظر والسمع ونحوهما مما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " . . . . وزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه " أخرجه الشيخان وغيرهما ( 1 )
وليس هذا فقط فقد أصدر نشرة منذ عهد غير بعيد ذهب فيها إلى التصريح بجواز تقبيل المرأة الأجنبية عند السلام عليها
_________
( 1 ) وقد خرجته في " إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للشيخ ابن ضويان " ( 1787 )
[ 11 ]
حجاب المرأة [ جزء 1 - صفحة 12 ]
ولكن بدون شهوة وقد قلنا وقال غيرنا لبعض أولئك الحزبيين : افترض أن يفعل ذلك بأختك وزوجتك ؟ فوجم
ولهم من مثل هذه المسائل البعيدة عن الكتاب والسنة بل العقل السليم الشيء الكثير لا مجال الآن للتوسع فيه وإنما استطردنا إلى ما ذكرنا من شواذهم وانحرافهم عن العلم الصحيح لنقول :
يجب على هؤلاء وغيرهم ممن يهمهم أن يكونوا على معرفة بالعلم الصحيح المستنبط من الكتاب والسنة استنباطا قائما على العلم بالقواعد الأصولية وحسن تطبيق لها على الفروع أن يجعلوا دينهم - بعد دراسة الكتاب والسنة - مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومنها هذه الرسالة المباركة - وبذلك يتمرنون على الاستنباط الصحيح والتفريح الرجيح وينجون من الإتيان باجتهادات وآراء لا يقول بها أحد ممن يعقل ما ينطق به لسانه أو يجري به قلمه من مثل ما تقدم بيانه
تلك هي بعض المسائل التي جاءت في طي هذه الرسالة القيمة وفيها مسائل وفوائد أخرى ستمر بالقارئ إن شاء الله تعالى وبمجموعها كانت الرسالة فريدة في بابها لا مثيل لها بين أترابها فإن غالبها ما تفردت به عن مثيلاتها ككتاب " الحجاب " للعلامة المودودي وكتابي " حجاب المرأة المسلمة " وغيرهما فليعض عليها بالنواجذ وليحمد الله تعالى أن جعله من قراء كتب ابن تيمية المستفيدين منها فإنه هو ( العارف بالله ) حقا ومن نحا نحوه
[ 12 ]
حجاب المرأة [ جزء 1 - صفحة 13 ]
ونحن إذ نشهد له بهذا لا ندعي له العصمة كيف وقد أبدينا بعض الملاحظات على مواطن معدودة قليلة من الرسالة مصداقا لقول الإمام مالك رحمه الله تعالى : " ما منا من أحد إلا ورد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي عن غيره أيضا ( 1 ) وذلك مما لا يحط من قدره أو قدر رسالته بلا ريب بل إن ذلك ليرفع من قيمتها للقلة المشار إليها على حد قول الشاعر :
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
بل لا عيب عليه في ذلك مطلقا فإنه مجتهد مأجور إما أجرين وهو الأكثر بفضل الله أو أجرا واحدا
هذا وقد كانت الرسالة طبعت سابقا تحت عنوان " حجاب المرأة ولباسها في الصلاة وغيرها " ولولا أن ثمة بعض الموانع منها اشتهارها بالاسم المذكور لرأيت أن نجعل عنوانها :
لباس الرجل والمرأة في الصلاة
لأنه هو الموضوع الذي اختصت به الرسالة ودندن المؤلف حوله وجاء بما يعز وجوده من الفوائد والفقه الصحيح
وقد زدت في التعليق عليها بعض الفوائد العلمية والحديثية مما
_________
( 1 ) انظر : " صفة الصلاة " ( ص 28 - الطبعة السابعة )
[ 13 ]
حجاب المرأة [ جزء 1 - صفحة 14 ]
كان فاتني في الطبعة السابقة وبذلك ازدادت الفائدة بهذه الطبعة على سابقتها فالحمد لله الذي يسر لنا ذلك ووفق الأستاذ الأخ أبو بكر زهير الشاويش لطبعها من جديد في هذا الثوب القشيب
نسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصا لوجهه وأن ينفع به المسلمين . وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين
دمشق في 7 رمضان سنة 1393
وكتبه
محمد ناصر الدين الألباني
[ 14 ]
9 - ؤفصل في " اللباس في الصلاة "
وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل في " اللباس في الصلاة " وهو أخذ الزينة عند كل مسجد : الذي يسميه الفقهاء : ( باب ستر العورة في الصلاة ) فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن أعين الناظرين وهو العورة وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن } ثم قال { ولا يبدين زينتهن } يعني الباطنة { إلا لبعولتهن } ( 1 ) الآية
فقالوا : يجوز لها في الصلاة أن تبدي الزينة الظاهرة دون الباطنة
والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين :
1 - فقال : ابن مسعود ومن وافقه هي الثياب
2 - وقال ابن عباس ومن وافقه : هو ما في الوجه واليدين
حجاب المرأة [ جزء 1 - صفحة 15 ]
( 1 ) سورة النور : الآية 31 ، وتمامها : " أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بين إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون "
[ 15 ]
مثل الكحل والخاتم
وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية
فقيل : يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول في مذهب أحمد
وقيل : لا يجوز وهو ظاهر مذهب أحمد قال : كل شيء منها عورة حتى ظفرها وهو قول مالك
وحقيقة الأمر : أن الله جعل الزينة زينتين : زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم
وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره . ( 1 )